-->

أين تذهب هذا المساء؟









يشاع عن بنغازي – أم اليتامى- أنها مدينة الكساد، وأن الموتى يمشون في شوارعها في وضح النهار، ويشاع عنها أيضاً أنها (غولة مدينة) لأن بنغازي الحقيقة ماتت مقتولة في الحرب... والإشاعة بالطبع تتسرب إلينا من مصادر الدعاية المضادة التي تهدف لخدمة الصهيونية والنوادي الليلية في أثينا على حساب غولتنا، ولكنها – للأسف – تلقى قبولاً واسعاً بين صفوف مواطنينا البسطاء حتى إنه تردد أخيراً – بهدف الإيحاء النفسي – أن أحد الأطفال الليبيين ولد مكفناً.. تلك الكذبة غير المعقولة التي لا تعني شيئاً في الواقع سوى أن أحدى مواطناتنا وقعت تحت تأثير الحرب النفسية وبدأت تخلط بين سجل المواليد وسجل الوفيات.
لكن بنغازي ليست مدينة مملة ... أعني ليس إلى هذا الحد على الأقل.. وإذا كان المرء يسمع أحياناً عن حدوث بعض الخوارق في الأزقة الخلفية، أو خروج أحد الموتى من قبره المعترف به لكي يزاحم مواطنيه على صلاة الفجر، أو إصرار ملك الجن على احتلال أحد بيوت دكاكين حميد دون إذن من مصلحة الأملاك معتقداً أن الدنيا عندنا فوضى، فإن ذلك لا يعني شيئاً في الواقع سوى أن بنغازي – التي تعتبرها الدعاية المضادة مدينة ميتة – ما تزال تعج بالحياة من تحت ومن فوق.
هذا وجه الحق... وتموت الدعاية المضادة بعد ذلك بغيظها، وتموت أثينا أيضاً.. فأسطورة الكساد لا تستطيع أن تقف على قدميها في مدينة مثل بنغازي ينقلب عاليها سافلها ألف مرة كل يوم، ويستطيع المواطن فيها أن يجلس على عتبة الباب الجواني عاماً كاملاً وهو يتسلى بمشاهدة ملك الجن يتمرغ في الخرارة.
أعنى ذلك لا يحدث في أثينا حتى إذا دفع المرء وزنه ذهباً حتى إذا قضى عمره يتسكع بين بالوعات اليونانيين، فإنه لن يرى قط ما يستطيع أن يراه مواطننا في فناء بيته... وإذا تصادف بطريقة ما، وخيل إليه تحت تأثير الويسكي في النادي الليلي أنه رأي ملكاً جنياً، فإن الأمر عادة يكون مجرد نمرة مملة يقوم بها أحد المهرجين مقابل سبعين دراخماً..
أما عندنا في بنغازي فإن الملك حقيقة واقعة إلى حد الموت ثم أنه لا يتقاضى قرشاً واحداً مقابل أتعابه...
هذه واحدة...
وإذا تعب المواطن عندنا من الفرجة على الملك في فناء بيته، فإنه يستطيع – هكذا في غمضة عين – أن يستدير للجلوس على عتبة الباب البراني وينعم بمشاهدة غولة المنطقة التي تقف على أهبة الاستعداد لتلبية نداء المتفرجين في كل الأوقات. وسوف يكون بوسعه أن يرى جاره الميت يخرج للوضوء في الخربة المقابلة، ويرى جاره الآخر يركض أمامه بدون رأس في عمرة تسرعه لتلبية النداء، ويرى شيخ المحلة – الذي مات بالكساد – يلوّح له من وسط الجنة في حشد من الحوريات، ويرى الحاجة (مُدَلّلة) تشرب حصتها من النبيذ بعد سنوات الحرمان في دار الفناء.
ويقضي عاماً كاملاً في الفرجة على أشباح المنطقة، ويقضي كل سهراته بالمجان وسط برنامج حافل تتضاءل بجانبه كل برامج النوادي الليلية في أثينا.
إن ذلك لا يتوفر قط في أية مدينة أخرى، أعني حتى إذا دفع المرء وزنه ذهباً لن يرى قط ما يراه مواطننا على عتبة الباب البراني في أي شارع في بنغازي، وإذا كان بعض الأشباح تظهر أحياناً في بقية المدن الأخرى – وخاصة في أثينا – فإنها في الواقع لا تصلح للتسلية بأي حال، لأنها تظهر وتختفي في غمضة عين كأن وراءها ما يشغلها دائماً، ثم إنها لا تظهر بدون رأس، أما عندنا في بنغازي فإن الأمر يختلف كلية، وكل أشباحنا ليس لديها ما يشغلها وكلها تخرج في جميع الأوقات وتتحدث معك وتنزع لك رؤوسها وتقول لك (بخ) وتصلي معك الفجر.
وذلك بالطبع دون مقابل، فميزة بنغازي عن بقية مدن العالم أنها مدينة لقضاء السهرة بالمجان.. أعنى بالنسبة للمواطن والسائح على حد سواء، فليس ثمة ما يستطيع المرء أن يفعله بمحفظة نقوده هنا... إنه يتركها عادة في البيت ويخرج للفرجة على الأشباح. وإذا كانت الأشباح ليست كافية، فإنه يستطيع أن يخطف رجله إلى زاوية المرابط المجاور، ويتفرج على الشيخ ينقلب أمامه إلى سبع.
والتكاليف في الزاوية لا تتجاوز عادة قرشاً واحداً ثمن فنجان القهوة، أعنى إذا كان المرء تعود أن يبذر نقوده في شرب القهوة، أما إذا كان مواطناً معتدلاً، فإنه يستطيع أن يشق طريقه في الزحام ويصل إلى مقاعد الصف الأول معتمداً على كتفه ويتفرج بالمجان.
وإذ ذاك سيرى بعيني رأسه مالا يراه أي مواطن آخر في أية مدينة أخرى بميزانه ذهبًا، وسوف يشاهد شيخ الزاوية يتخلى عن إنسانيته طائعاً وينقلب إلى سبع ثم يرفع مخلبيه في الهواء مستعداً للانقضاض على الشيطان الذي لا يستطيع المرء أن يقاتله ما دام مجرد إنسان مفتقر إلى المخالب، فيما ينقلب بقية العيساوية إلى ثعالب من باب التواضع ويسندون ظهورهم على جدار العرين تاركين المسرح للأسد وحده.
هذا العرض المثير يكلف المواطن عندنا ثمن فنجان القهوة ولا يستطيع المواطن في أثينا أن ينعم بمشاهدته حتى بزجاجة شمبانيا. وإذا أتيحت له فرصة ما لكي يشاهد عرضاً مماثلاً في أحد الملاهي السياحية فإن الشيخ عادة مجرد ممثل لا تربطه أية علاقة بالمرابط، ولا يستطيع أن يحقق شيئاً مجدياً في نهاية المطاف سوى أن ينقلب إلى فأر أو مخلوق صغير من هذا الحجم. أما الأسد فإنه بالطبع بضاعة خاصة تباع في بنغازي وحدها التي يقال عنها في مصادر الدعاية المضادة: إنها مدينة الكساد.
وبعد مشاهدة الأسد والثعالب يستطيع المواطن عندنا أن يعرج في طريقه على سوق الظلام، وينعم بالظلام ومشاهدة أشباح الجنود الإيطاليين الذين حصدتهم طائرات الحلفاء في الحرب الماضية، ويتبادل معهم الشتائم بشأن الاستعمار ويتمتع بالشماتة فيهم، ثم يذهب إلى شارع (بوغولة) بعد منتصف الليل، ويشق طريقه وسط الأشباح إلى المسجد نفسه الذي يصلي فيه صاحب الشارع بدون رأس... أعنى إذا كان المواطن يرغب في متابعة السهرة... أما إذا كان يملك ثمة ما يفعله في الصباح، فإنه يستطيع بالطبع أن يعود إلى بيته موقنًا من أن بنغازي لن تحرمه من حصته على أي حال، وأنه سيجد في الطريق ثمة من يخبطه بحجر على ظهره أو يتظاهر بالرغبة في إشعال سيجارته ثم يقول له: (بخ)!.
هكذا .. السهرة مستمرة في المدينة التي تدعى ظلماً بمدينة الكساد...
لا أحد يفوته نصيبه... لا أحد يحتاج إلى محفظة نقود، كل يوم عندن بالمجان، وكل مواطن يملك حقه كاملاً في تذوق متعة الحياة داخل مدينتنا بين الموتى والأحياء على حد سواء دون أن يضطر إلى بعثرة نقوده في شراء التذاكر وزجاجات الشمبانيا... إنه يستطيع أن يوفر على نفسه اقتراف تلك الفضيحة ريثما ينال إجازته ويهرب إلى أثينا أو القاهرة أو بيروت أو أي مكان آخر يصلح لارتكاب الفضائح وإنفاق النقود.
أما عندنا في بنغازي فالحياة بالمجان.
وإذا تعب المواطن من مشاهدة ملك الجن والمرحومة الحاجة (مدلّلة) التي تتسكع كل ليلة أمام بيته في صحبة الرجال السماويين، فإنه ما يزال قادراً على إنفاق السهرة دون محفظة نقود في صلاة التراويح أو في (سهرية) جاره الميت...
ذلك في متناول الجميع، أعني (سهرية) الجار الميت، فالمرء لا يحتاج إلى أن يعرف المرحوم شخصياً لكي يسهر على حسابه، إنه يستطيع أن يحتل مقعده على أول كرسي يصادفه ويرفع الكلفة على الفور ويتحدث عن إسرائيل أو أية قضية تخطر بباله يكون قد اقترفها مواطن آخر.
وعندما يدركه التعب يعود إلى بيته ويقابل المرحوم في وسط الزقاق، ويتبادل معه قذف بعض الأحجار... أعنى هكذا الدنيا والآخرة وجهاً لوجه في مدينة بنغازي التي تدعى ظلماً بمدينة الكساد.
فإذا كانت السهرية لا تكفي... ولا تكفي التراويح أو الأشباح أو الأسد والثعالب، أو الحاجة (مدلّلة) وأصدقاؤها السماويون، فإن المواطن عندنا ما يزال يملك أم كلثوم..
وإذا كانت تلك السيدة الصبورة لا تكفي فإن المواطن المدلل يستطيع أن ينام بالطبع، لأن النوم أصلاً ليس عيباً، أو يطارد حرمه فوق السدة باعتبار أن الحياة ليست كلها متعة خالصة، أو يذهب لقراءة البغدادي بقيادة شيخ المحلة، أو يفتح لنفسه نافذة على العالم ويشترك في سماع الهلالية لكي يعرف على الأقل ما يحتاج إلى أن يفعله إذا دعته الظروف لاحتلال القيروان.
إن فرص السهرة مفتوحة للجميع. وليس ثمة مبرر لوقوعنا تحت تأثير الدعايات المغرضة القادمة من المدن الأخرى، فاللعبة كلها مجرد مناورة لجر رجلنا إلى الجحيم عن طريق اقتراف الذنوب، أنهم يحسدوننا على طهارتنا، هذا كل ما في الأمر، ولكننا نستطيع أن نفوت عليهم أهدافهم البذيئة بقليل من الصبر... ففي بنغازي – وفي مكة المكرمة أيضاً – يولد الإنسان لكي يذهب إلى الجنة هكذا مباشرة على مشهد من جميع حساده، يولد الإنسان هنا وفي فمه ملعقة من ذهب وقليل من بصاق شيخ المحلة ويوضع تحت حراسة عين الله التي لا تنام منذ يوم مولده على يد القابلة إلى يوم وفاته على يد شيخ فقهاء المستشفى الحكومي.
(بنغازي ... الجنة)، تقول تذكرة الميلاد عندنا... ليس ثمة سيئة واحدة في الطريق، ليس ثمة ذنب واحد يستطيع المرء أن يقترفه بالنظر إلى وجه إمرأة أو كراعها أو باللهو في الحديقة العامة وقراءة كتب النصارى في المكتبات المشبوهة أو بالخروج مع حرمه لقتل المواطنين بالحسد أو بسماع أعمال الشيطان الموسيقية في النادي الليلي.
ليس ثمة ذنوب...
أنت تولد هنا بضربة من الحظ الحسن وتعيش هنا حتى تدهسك إحدى عربات الروميس أو تغرق في بئر النملة خلال العطلة الصيفية... وبعد ذلك يحملك أحبابك للقاء وجه ربك ويطردون روحك من البيت بإقامة العزاء ثلاثة أيام وثلاث ليالي ويذبحون النعاج احتفالاً بخلاصك من بنغازي...
وإذ ذاك تستطيع أن تقترف ما تشاء من الذنوب، وتستطيع أن تشرب نهراً كاملاً من البوخة، وتطارد الحوريات وتلهو مثل سكان أثينا دون أن يجرؤ أحد على مضايقتك، فأنت تستحق إذ ذاك أن تقبض أتعابك مقابل حياتك في بنغازي...
مقابل حمولة العمر من الكساد.
اظهر تعليقات : جوجل بلس او تعليقات بلوجر
شكرا لك ولمرورك